فصل: ومن باب من قال الخمس قبل النفل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب من قال الخمس قبل النفل:

قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن يزيد بن يزيد بن جابر الشامي عن مكحول عن زياد بن جارية التميمي عن حبيب بن مسلمة الفهري أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل الثلث بعد الخمس».
قلت: وفي هذا الحديث أنه أعطاهم ذلك بعد أن خمس الغنيمة فيشبه والله أعلم أن يكون الأمران معًا جائزين، وفيه أنه قد بلغ بالنفل الثلث.
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال مكحول والأوزاعي لا يجاوز بالنفل الثلث.
وقال الشافعي ليس في النفل حد لا يجاوز وإنما هو إلى اجتهاد الإمام.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان ومحمود بن خالد الدمشقيان المعنى قالا: حَدَّثنا مروان بن محمد حدثنا يحيى بن حمزة قال: سمعت أبا وهب يقول: سمعت مكحولا يقول كنت عبدًا بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني فما خرجت من مصر وبها علم إلاّ حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلاّ حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلاّ حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها كل ذلك أسأل عن النفل فلم أجد أحدًا يخبرني فيه بشيء حتى لقيت شيخًا يقال له زياد بن جارية التميمي فقلت له هل سمعت في النفل شيئا، قال نعم سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول: «شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة».
قلت: أخبرني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر، وروي هذا الحديث ثم قال قد قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فرق بين البدأة والقفول حتى فضل إحدى العطيتين على الأخرى لقوة الظهر عند دخولهم وضعفه عند خروجهم لأنهم وهم داخلون أنشط وأشهى للسير والإمعان في بلاد العدو وأجم، وهم عند القفول تضعف دوابهم وهم أشهى للرجوع إلى أوطانهم وأهاليهم لطول عهدهم بهم وحبهم للرجوع إليهم فنرى أنه زادهم في القفول لهذه العلل.
قلت: كلام ابن المنذر في هذا ليس بالبين لأن فحواه يوهم أن معنى الرجعة هو القفول إلى أوطانهم، وليس هو معنى الحديث، والبدأة إنما هي ابتداء سفر الغزو إذا نهضت سرية من جملة العسكر فأوقعت بطائفة العدو. فما غنموا كان لهم منه الربع ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباعه. فإن قفلوا من الغزاة ثم رجعوا فأوقعوا بالعدو ثانية كان لهم مما غنموا الثلث لأن نهوضهم بعد القفل أشق والخطر فيه أعظم.

.ومن باب السرية ترد على أهل العسكر:

قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر حدثني هشيم عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم؛ يرد مُشدهم على مُضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده».
قلت: قوله تتكافأ دماؤهم معناه أن أحرار المسلمين دماؤهم متكافئة في وجوب القصاص والقود لبعضهم من بعض لا يفضل منهم شريف على وضيع. فإذا كان المقتول وضيعا وجب القصاص على قاتله. إن كان شريفا لم يسقط القود عنه شرفه، وإن كان القتيل شريفا لم يقتص له إلاّ من قاتله حسب.
وكان أهل الجاهلية لا يرضون في دم الرجل الشريف بالاستقادة من قاتله ولا يرونه بَواءً به حتى يقتصوا من عدة من قبيلة القاتل فأبطل الإسلام حكم الجاهلية وجعل المسلمين على التكافؤ في دمائهم وإن كان بينهم تفاضل وتفاوت في معنى آخر.
وقوله: «يسعى بذمتهم أدناهم» يريد أن العبد ومن كان في معناه من الطبقة الدنيا كالنساء والضعفاء الذين لا جهاد عليهم إذا أجاروا كافرًا أمضي جوارهم ولم تخفر ذمتهم.
وقوله: «ويجير عليهم أقصاهم» معناه أن بعض المسلمين وإن كان قاصي الدار إذا عقد للكافر عقدًا لم يك لأحد منهم أن ينقضه وإن كان أقرب دارا من المعقود له.
قلت: وهذا إذا كان العقد والذمة منه لبعض الكفار دون عامتهم فإنه لا يجوز له عقد الأمان لجماعتهم، وإنما الأمر في بذل الأمان وعقد الذمة للكافة منهم إلى الإمام على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة فيه دون غيره. ولو جعل لأفناء الناس ولآحادهم أن يعقدوا لعامة الكفار كلما شاءوا صار ذلك ذريعة إلى إبطال الجهاد وذلك غير جائز.
وقوله: «وهم يد على من سواهم» فإن معنى اليد المعاونة والمظاهرة إذا استنفروا وجب عليهم النفير وإذا استنجدوا انجدوا ولم يتخلفوا ولم يتخاذلوا والمُشِد المقوي والمضعف من كانت دوابه ضعافًا، وجاء في بعض الحديث المضعف أمير الرفقة. يريد أن الناس يسيرون بسير الضعيف لا يتقدمونه فيتخلف عنهم ويبقى بمضيعة والمتسري هو الذي يخرج في السرية، ومعناه أن يخرج الجيش فينيخوا بقرب دار العدو ثم ينفصل منهم سرية فيغنموا فإنهم يردون ما غنموه على الذين هم ردء لهم لا ينفردون به، فأما إذا كان خروج السرية من البلد فأنهم لا يردون على المقيمين في أوطانهم شيئا.
وقوله: «لا يقتل مؤمن بكافر» فإنه قد دخل فيه كل كافر له عهد وذمة أو لا عهد له ولا ذمة.
وقوله: «ولا ذو عهد في عهده» فإن العهد للكفار على ضربين، أحدهما عهد متأبد كمن حقن دمه للجزية، والآخر من كان له عهد إلى مدة فإذا انقضت تلك المدة عاد مباح الدم كما كان.
وقد تأوله من ذهب من الفقهاء إلى أن المسلم يقتل بالذمي على أن قوله ولا ذو عهد في عهده معطوف على قوله: «لا يقتل مؤمن بكافر» ويقع في الكلام على مذهبه تقديم وتأخير فيصير كأنه قال لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي. وقال الشافعي لا يقتل مسلم بوجه من الوجوه بأحد من الكفار على ظاهر الحديث وعمومه قال وقوله: «لا يقتل مسلم بكافر» كلام تام بنفسه، ثم قال على أثره ولا ذو عهد في عهده أي لا يقتل معاهد ما دام في عهده، قال وإنما احتيج إلى أن يجري ذكر المعاهد ويؤكد تحريم دمه هاهنا لأن قوله: «لا يقتل مؤمن بكافر» قد يوهم ضعفًا وتوهينا لشأنه ويوقع شبهة في دمه فلا يؤمن أن يستباح إذا علم أن لا قود على قاتله فوكد تحريمه بإعادة البيان لئلا يعرض الإشكال في ذلك.
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال: «أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل راعيها وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل فجعلت وجهي قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات يا صباحاه ثم اتبعت القوم فجعلت أرمي وأعقرهم وساق الحديث والقصة إلى أن قال ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي حلأتهم عنه ذو قرد قال ونبي الله صلى الله عليه وسلم في خمسمائة فأعطاني سهم الفارس والراجل».
قوله: حلأتهم عنه معناه طردتهم عنه وأصله الهمز، يقال حلأت الرجل عن الماء إذا منعته الورود؛ ورجل محلأ أي مذود عن الماء مصدود عن وروده، ومنه قول الشاعر:
لحائِم حام حتى لا حراك به ** محلأ عن سبيل الماء مطرود

وقوله أعطاني سهم الفارس والراجل فإنه يشبه أن يكون إنما أعطاه من الغنيمة سهم الراجل حسب. لأن سلمة كان راجلًا في ذلك اليوم وأعطاه الزيادة نفلًا لما كان من حسن بلاءه.

.ومن باب يستجن بالإمام في العهد:

قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الإمام جنة يقاتل به».
قلت: معناه أن الإمام هو الذي يعقد العهد والهدنة بين المسلمين وبين أهل الشرك فإذا رأى ذلك صلاحًا وهادنهم فقد وجب على المسلمين أن يجيزوا أمانه وأن لا يعرضوا لمن عقد لهم في نفس أو مال، ومعنى الجنة العصمة والوقاية وليس لغير الإمام أن يجعل الأمة بأسرها من الكفار أمانًا، وإنما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «يسعى بذمتهم أدناهم» أن يكون ذلك في الأفراد والآحاد أو في أهل حصن أو قلعة ونحوها. فأما أن يجوز ذلك في جيل وأمة منهم فلا يجوز. وقد ذكرنا هذا فيما مضى.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو عن بكير بن الأشج عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره أنه قال: «بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيته ألقي في قلبي الإسلام فقلت يا رسول الله والله إني لا أرجع إليهم أبدًا فقال إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع قال فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت».
قلت: قوله: «لا أخيس بالعهد» معناه لا أنقض العهد ولا أفسده من قولك خاس الشيء في الوعاء إذا فسد.
وفيه من الفقه أن العقد يرعى مع الكافر كما يرعى مع المسلم وأن الكافر إذا عقد لك عقد أمان فقد وجب عليك أن تؤمنه وأن لا تغتاله في دم ولا مال ولا منفعة.
وقوله: «لا أحبس البرد» فقد يشبه أن يكون المعنى في ذلك أن الرسالة تقتضي جوابا والجواب لا يصل إلى المرسل إلاّ على لسان الرسول بعد انصرافه فصار كأنه عقد له العهد مدة مجيئه ورجوعه والله أعلم.

.ومن باب ما يسير في العهد نحو عدو ليقرب منهم فيغير بعد المدة عليهم:

قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة، عَن أبي الفيض عن سُليم بن عامر عن رجل من حمير، قال كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة فأرسل إليه معاوية فسأله فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» فرجع معاوية.
الأمد الغاية، قال النابغة:
سبْق الجواد إذا استولى على الأمد

ومعنى قوله: «ينبذ إليهم على سواء» أي يعلمهم أنه يريد أن يغذوهم وأن الصلح الذي كان بينهم قد ارتفع فيكون الفريقان في ذلك على السواء.
وفيه دليل على أن العهد الذي يقع بين المسلمين وبين العدو ليس بعقد لازم لا يجوز القتال قبل انقضاء مدته، ولكن لا يجوز أن يفعل ذلك إلاّ بعد الإعلام به والإنذار فيه، ويشبه أن يكون عمرو إنما كره مسير معاوية إلى ما يتاخم بلاد العدو والإقامة بقرب دارهم من أجل أنه إذا هادنهم إلى مدة وهو مقيم في وطنه فقد صارت مدة مسيره بعد انقضاء المدة كالمشروط مع المدة المضروبة في أن لا يغزوهم فيها فيأمنونه على أنفسهم. فإذا كان مسيره إليهم في أيام الهدنة حتى ينيخ بقرب دارهم كان إيقاعه بهم قبل الوقت الذي يتوقعونه فكان ذلك داخلا عند عمرو في معنى الغدر.

.ومن باب الرسل:

قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، عَن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرّب أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال ما بيني وبين أحد من العرب حِنة وإني مررت بمسجد لبني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبد الله فجيء بهم فاستتابهم غير ابن النواحة فقال له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست برسول فأمر قرظة بن كعب فضرب عنقه بالسوق، ثم قال من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلًا بالسوق».
قوله: حنة يريد الوتر والضغن واللغة الفصيحة أحنة بالهمز قال الشاعر:
إذا كان في نفس ابن عمك أحنة ** فلا تستثرها سوف يبدو دفينها

ويقال فلان مواحن لفلان إذا كان مضمرًا له على عداوة، ويشبه أن يكون مذهب ابن مسعود في قتله من غير استتابة أنه رأى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أنك رسول لضربت عنقك» حكما منه بقتله لولا علة الرسالة، فلما ظفر به وقد ارتفعت العلة أمضاه فيه ولم يستأنف له حكم سائر المرتدين.
وفيه حجة لمذهب مالك في قتل المستسر بالكفر وترك استتابته ومعلوم أن هؤلاء لا يمكنهم إظهار الكفر بالكوفة في مسجدهم وهي دار الإسلام، وإنما كانوا يستبطنون الكفر ويسرون الإيمان بمسيلمة فاطلع على ذلك منهم حارثة فرفعهم إلى عبد الله وهو وال عليها فاستتاب قوما منهم وحقن بالتوبة دماءهم ولعلهم قد كانت داخلتهم شبهة في أمر مسيلمة ثم تبينوا الحق فراجعوا الدين فكانت توبتهم مقبولة عند عبد الله، ورأى أن أمر ابن النواحة بخلاف ذلك لأنه كان داعية إلى مذهب مسيلمة فلم يعرض عليه التوبة ورأى الصلاح في قتله.
وإلى نحو من هذا ذهب بعض العلماء في أمر هؤلاء القرامطة الذين يلقبون بالباطنية.
وأما قوله: «لولا أنك رسول لضربت عنقك» فالمعنى في الكف عن دمه أن الله سبحانه قال: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} فحقن له دمه حتى يبلغ مأمنه ويعود بجواب ما أرسل به فتقوم به الحجة على مرسله.

.ومن باب أمان المرأة:

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا وهب أخبرني عياض بن عبد الله عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن ابن عباس قال حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب «أنها أجارت رجلًا من المشركين يوم الفتح فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال قد أجرنا من أجرت وأمّنا من أمنت».
قلت: في هذا حجة لمن ذهب إلى أن مكة فتحت عنوة لأنه لو كان صلحا لوقع به الأمان العام فلم يحتج إلى إجارة أمان أم هانئ ولا إلى تجديد الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأجمع عوام أهل العلم أن أمان المرأة جائز وكذلك قال أكثر الفقهاء في أمان العبد؛ غير أن أصحاب الرأي فرقوا بين العبد الذي يقاتل والذي لا يقاتل فأجازوا أمانه إن كان ممن يقاتل ولم يجيزوا أمانه إن كان لم يقاتل، فأما أمان الصبي فأنه لا ينعقد لأن القلم مرفوع عنه.